فصل: الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخص:

وذلك أن الكسب والمعاش كما قدمناه إنما هو بالصنائع أو التجارة والتجارة هي شراء البضائع والسلع وادخارها يتحين بها حوالة الأسواق بالزيادة في أثمانها ويسمى ربحا ويحصل منه الكسب والمعاش للمحترفين بالتجارة دائما فإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متمول على الجملة ولم يحصل للتاجر حوالة الأسواق فسد الربح والنماء بطول تلك المدة وكسدت سوق ذلك الصنف ولم يحصل التاجر إلا على العناء فقعد التجار عن السعي فيها وفسدت رؤوس أموالهم واعتبر ذلك أولا بالزرع فإنه إذا استديم رخصه يفسد به حال المحترفين بسائر أطواره من الفلح والزراعة لقلة الربح فيه وندارته أو فقده فيفقدون النماء في أموالهم أو يجدونه على قلة ويعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم وتفسد أحوالهم وبصيرون إلى الفقر والخصاصة ويتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضا بالطحن والخبز وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرث إلى صيرورته مأكولا وكذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السلطان على أهل الفلح زرعا فإنها تقل جبايتهم من ذلك ويعجزون عن إقامة الجندية التي هي بسببها ومطالبون بها ومنقطعون لها فتفسد أحوالهم وكذا إذا استديم الرخص في السكر أو العسل فسد جميع ما يتعلق به وقعد المحترفون عن التجارة فيه وكذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرخص أيضا فإذا الرخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص وكذا الغلاء المفرط أيضا وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط من ذلك وسرعة حوالة الأسواق وعلم ذلك يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران وإنما يحمد الرخص في الزرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه واضطرار الناس إلى الأقوات من بين الغني والفقير والعالة من الخلق هم الأكثر في العمران فيعم الرفق بذلك ويرجح جانب القوت على جانب التجارة في هذا الصنف الخاص {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} والله سبحانه وتعالى رب العرش العظيم.

.الفصل الخامس عشر في أن خلق التجارة نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة:

قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح ولا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات واللجاج وهي عوارض هذه الحرفة وهذه الأوصاف نقص من الذكاء والمروءة وتجرح فيها لأن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذكاء وأفعال الشر والسفسفة تعود بضد ذلك فتتمكن وترسخ إن سبقت وتكررت وتنقص خلال الخير إن تأخرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس شأن الملكات الناشئة عن الأفعال وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم فمن كان منهم سافل الطور محالفا لأشرار الباعة أهل الغش والخلابة والخديعة والفجور في الأثمان إقرارا وإنكارا كانت رداءة تلك الخلق عنه أشد وغلبت عليه السفسفة وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة وإلا فلا بد له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته وفقدان ذلك منهم في الجملة ووجود الصنف الثاني منهم الذي قدمناه في الفصل قبلة أنهم يدرعون بالجاه ويعوض لهم من مباشرة ذلك فهم نادر وأقل من النادر وذلك أن يكون المال قد يوجد عنده دفعة بنوع غريب أو ورثه عن أحد من أهل بيته فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولة وتكسبه ظهورا وشهرة بين أهل عصره فيرتفع عن مباشرة ذلك بنفسه ويدفعه إلى من يقوم له به من وكلائه وحشمه ويسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من بره وإتحافه فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر فتكون مروءتهم أرسخ وأبعد عن تلك المحاجاة إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء ورفاقهم أو خلافهم فيما يأتون أو يدرون من ذلك إلا أنه قليل ولا يكاد يظهر أثره {والله خلقكم وما تعملون}.

.الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم:

اعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري وبكونه عمليا هو جسماني محسوس والأحوال الجسمانية المحسوسة فنقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته وعلى نسبة الأصل تكون الملكة ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم فالملكة الحاصلة عن الخبر وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته ثم إن الصنائع منها البسيط ومنها المركب والبسيط هو الذي يختص بالضروريات والمركب هو الذي يكون للكماليات والمتقدم منها في التعليم هو البسيط لبساطته أولا ولأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله فيكون سابقا في التعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصا ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئا فشيئا على التدريج حتى تكمل ولا يحصل ذلك دفعة وإنما يحصل في أزمان وأجيال إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيما في الأمور الصناعية فلا بد له إذن من زمان ولهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلا البسيط فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل وتنقسم الصنائع أيضا إلى ما يختص بأمر المعاش ضروريا كان أو غير ضروري وإلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان من العلوم والصنائع والسياسة ومن الأول الحياكة والجزارة والنجارة والحدادة وأمثالها ومن الثاني الوراقة وهي معاناة الكتب بالانتساخ والتخليد والغناء والشعر وتعليم العلم وأمثال ذلك ومن الثالث الجندية وأمثالها والله أعلم.